الكاتب اشرف هميسة
شهر رمضان شهر خير و بركة على مصر و الأمة كلها فيه تعلو الهمم و تزكو النفوس و يتعمق الايمان بالقلوب و تتحسن الاخلاق في المجتمع و لا شك أن المسلمين قد عاشوا زمانا شريفًا كان فيه النفحات و الرحمات و الروحانيات وهو شهر رمضان المبارك انشغلت فيه جوارحهم بالإقبال على الله عز وجل صياما وقياما و ذكرا و تلاوةً للقرآن وغير ذلك من ألوان العبادات المختلفة .. فلقد كان شهر رمضان المعظم ميداناً لتنافس الصالحين بأعمالهم و مجالاً لتسابق المحسنين بإحسانهم ، فكم تهذبت فيه نفوسنا و كم تروضنا فيه على الفضيلة و ارتفعنا فيه عن الرذيلة .. ولا شك أن هذه الطاعات المختلفة في شهر رمضان من شأنها أن تصل بالإنسان إلى حد الاسـتـقـامـة و الواجب على الإنسان الذي عاش حلاوة الاستقامة في رمضان أن يستمر عليها بعد رمضان .. فالله سبحانه و تعالى لا يطلب منا الاستقامة في رمضان وفقط و إنما هو سبحانه قد اصطفى رمضان كزمنٍ حتى يشيع ما يحدث فيه في غيره ، أي من بعد ذلك في كل الزمان وذلك لأن اصطفاء الله لزمان أو لمكان أو لإنسان ، إنما الغاية من هذا الاصطفاء أن يشيع أثرُ الاصطفاء في غيره ..
لقد غرس رمضان في نفوسنا خيراً عظيماً ، فنرجو من كل مسلم أن يتعهد هذا الغرس بالحفظ و الرعاية والعناية و أن يسقي هذا الغرس لينمو أكثر ، حتى يجني ثمار ذلك الغرس ، فمن علامات قبول الحسنة الحسنة بعدها و من علامات بطلان العمل و ردّه العودة إلى المعاصي بعد الطاعات ، فاجعل أيها المسلم من نسمات رمضان المشرقة مفتاح خير لسائر العام ، و منهج حياة في كل الأحوال و حافظ على ما كنت تقوم به في رمضان حتى تكون نبعاً متدفقاً بالخير دائما .. نسأل الله بقدرته على كل شيء أن يغفر لنا كل شيء و لا يسألنا عن شيء و أن يوفقنا لصالح الأعمال و المواظبة عليها ..
لقد فتح المسلمون في رمضان صفحة بيضاء مع الله عز وجل بالتوبة الصادقة و مع الرسول صلى الله عليه وسلم بطاعته فيما أمر و اجتناب ما نهى عنه و زجر و مع الوالدين والأقارب والأرحام والزوجة والأولاد و ذلك بالبر والصلة و مع المجتمع الذي يعيشون فيه ..
و السؤال : هل سنطوي هذه الصفحة البيضاء مرة أخرى ؟ هل سنقطع هذه العلاقات مرة ثانية ؟ هل سنجدد المعصية ؟ هل سنترك البر و الصلة ؟ هل سنكون سببا في تقطيع أواصر المجتمع بدلاً من أن نجعله مترابطًا ؟ أم أننا سنستمر على ما كنا عليه في رمضان بعد رمضان ؟ فإن من علامة قبول الحسنة الحسنة بعدها .. فقد سئل سيدنا عبد الله بن مسعود : كيف كنتم تستقبلون رمضان ؟ قال : ما كان أحد منا يجرؤ أن يستقبل الهلال وفي قلبه مثقال ذرة من حقد على أخيه المسلم .. انظر إلى كلام هذا الصحابي الجليل و تأمله بعمق ستدرك أن كلامه يحمل من الروعة ما يحمل و كذلك ستدرك أن كلامه يحوي بعض الخطورة ، نعم فهو روعة لمن نزّه قلبه و نقّاه من كل حقد وغيرة مذمومة و كراهية و بغض .. وهو خطورة لمن تملك الحقد منه ، فهل نعود للخصومة و الحقد مرة أخرى بعد أن عشنا لذة الود و الصلة و الترابط ؟ لقد تعودت على الصيام فلا تحرم نفسك صيام الست من شوال ، فمن الأعمال الصالحة بعد رمضان صيام ست من شوال قال صلى الله عليه وسلم : من صام رمضان ثم أتبعه ستا من شوال كان كصيام الدهر .. أخرجه مسلم
مع انقضاء شهر رمضان يجب على كل مسلم أن يسأل نفسه : ماذا استفاد من شهر رمضان المبارك .. ؟
وهل أحدث تغييرا في سلوكياته و أخلاقياته ؟ .. و ما الدروس التي يمكننا أن نخرج بها من تلك الأيام الفاضلة التي قضيناها في العبادة ؟ .. وهل تعلمنا الصبر على الطاعات و الابتعاد عن المنكرات ؟ .. و متى سيتغير المسلم إذا لم تغيره ليالي الشهر الفضيل ؟ .
إجابة هذه التساؤلات ستجدها بالطبع لدى أصحاب القلوب العامرة بالتقوى و الإيمان و نور القرآن أما أصحاب القلوب الخربة فلا مفر أمامهم سوى ترك المعاصي و التوبة و الاستقامة على طاعة الله .. اللهم بلغت ..!
لقد جرت العادة أنَّا نُعلِّق كل معاصينا على الشيطان و إذا كنا قد علمنا أن الشياطين في رمضان قد صُفِّدت و سُلْسلت ، إذن فإن كل معصية وقعت في رمضان فليس للشيطان فيها نصيب و إنما هي شهوة النفس و معنى هذا أنه قد تدرّب المسلمون على أن الشيطان ليس معه حركة في رمضان و تدرّب المسلمون كذلك على كسر الشهوة الإنسانية و كبح جماحها ، فهل سنعطي الفرصة للشيطان ليتملك منا مرة أخرى ؟ و هل سنترك له العنان يفسد علينا علاقتنا بخالقنا و يفسد علينا الفطرة النقية التي خلقنا الله عليها ؟ وهل نعاود إرضاء هذه النفس بتلبية حاجياتها و شهواتها مرة أخرى ..؟
لقد استحضرنا في رمضان قيما و أخلاقًا نبيلة و عظيمة ، يجب أن تسود هذه القيم سائر شهور العام ، فليس معنى أننا قد ودّعنا رمضان أن نودّع معه القيم و السلوكيات و الأخلاقيات الكريمة التي كانت منتشرة فيه ، فما أحرى كل مسلم بعد رمضان أن يعيش بروح رمضان و السؤال الآن : هل سينهار مجتمعنا مرة أخرى بانعدام الأخلاق عقب رمضان …؟
نعم أنقضى شهر البركات كلمح البصر .. تغير فيه حال البعض و بقى حال آخرين كما هو ، رأى من ناله الحظ علامات القبول و رضت نفسه و انشرح صدره و فات من أكتفى من الصيام بالجوع و العطش و لم يهتم بتغير حالة مع الله من حال إلى حال .. إن تغير الاحوال احدى علامات قبول الصيام و القيام وغيرها من الاعمال التى يحرص الجميع على أدائها .. ثم تأتى الفرحة الصغرى كما في حديث أبي هريرة -رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ( قال الله : كل عمل ابن آدم له إلا الصيام فإنه لي و أنا أجزي به ، و الصيام جُنّة ، و إذا كان يوم صوم أحدكم فلا يرفث ولا يصخب ، فإن سابّه أحد أو قاتله فليقل : إني امرؤ صائم .. والذي نفس محمد بيده لخلوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك .. للصائم فرحتان يفرحهما : إذا أفطر فرح ، و إذا لقي ربه فرح بصومه ) وهى بالطبع فرحة بأتمام الشهر و البشارة بالقبول بعد أن أخلص نيته لله تعالى فى كل عمل قام به .. وإظهار الفطر و مظاهر الفرحة من الشعائر التعبدية لله فقد قال تعالى :
قل بفضل الله وبرحمته فبذلك فليفرحوا هو خير مما يجمعون .. و تلك الفرحة لا تعنى أن نخرج عن التزامنا الذى استمر ثلاثون يوماً فنهمل الصلاة ونهجر القرآن ولا نهتم بصلة الرحم .. بل مظاهر الفرحة فى استمرارنا يبدئها البعض بليلة العيد بالتهانى للأهل و الأقارب والمعارف ولا ينسى الكريم العظيم سبحانه فيقف بين يديه فى جوف الليل يناجية و يشكره على فضله و نعمه و يرجوه ان يتقبل ما كان منه من توبة وعمل و ان يعينه و يمنحه القوة على مجاهدة النفس فى الآتى من الايام حتى لا تفتُر العزيمة بعد رمضان ..
يخطئ البعض أن يظن أن عليه أن يلزم نفسه باستمراره بعد رمضان بنفس القوة و الحماس لعبادات تلذذ حلاوتها فى رمضان فيأتى بعد مدة قصيرة و يشعر باستثقالها و رويداً رويداً يهملها جميعاً ولا يبقى له من رمضان سوى الصلاة فيضيع مجهوده فى التغيير الذى ينشده .. ولكن الصواب كما وجهنا الرسول صلى الله عليه وسلم : فعن عائشة رضي الله عنها قالت : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : سددوا و قاربوا و اعلموا أن لن يدخل أحدكم عمله الجنة و أن أحب الأعمال إلى الله أدومها و إن قل .. فالاندفاع دون خطة للتدرج يؤدى إلى نكسات .. ولا تعارض بين هذا و بين الجد و المثابرة و الاستمرارية و المقصود الاعتدال فلا نكلف انفسنا إلا وسعها و قليل دائم خيرٌ من كثير منقطع .. ففى رمضان يُعاد تنظيم امور الحياة جميعاً فلا تتعارض فنجد فسحة فى الوقت لتقسيمة بين الصلاة و القيام و قراءة القرآن وغيرها إما بعد رمضان فيقصر الوقت المتاح للعبادة وكل ما نحتاجة هو اعادة تقسيم المتاح من الوقت مع استمرار العبادة .. فقرأة ما تيسر من القرآن و إن كان قليل أفضل من هجره حتى رمضان القادم .. و قد منحنا عصرنا هذا عادة وإن كانت سيئة إلا انه يمكن تحويلها إلى عادة حسنة ألا وهى طول السهر بالليل وهو ما يمنحا الفرصة للوصال مع الله بما يفتح علينا من ركعات القيام فى الثلث الاخير من الليل .. وهكذا إذا اهتممنا بتنظيم وقتنا نجحنا فى الاستمرار ..
الوصفة السحرية لتقسيم يومنا فى الحديث : عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : إن الدين يسر و لن يشاد الدين أحد إلا غلبه فسددوا و قاربوا و أبشروا و استعينوا بالغدوة و الروحة و شيء من الدلجة ..
فقد يسر علينا معرفة افضل تقسيم وهو أول النهار و آخره و شيئاً من الليل و خصوصاً آخره .. فهنيناً لعبد ارتقى و تدرج فى رمضان من عبوديه ربانية حتى وصل إلى الحب الالهى و جاهد نفسه و استمر فى قربه من الله سبحانه و تعالى ..
ولا يسعنا في هذا المقام إلا أن نحمد الله على أن بلغنا إياه و أتمه علينا و نسأله عز وجل أن يتكرم علينا بقبول صيامنا و صلاتنا و ركوعنا و سجودنا و قيامنا و تهجدنا و أن نكون ممن شملتهم رحمته و مغفرته و عتقه من النيران و أن يبلغنا رمضان أعوام عديده و أن يعم الأمن و الأمان و الرخاء و السخاء على مصرنا الحبيبة و سائر بلاد المسلمين و الله من وراء القصد ….. و كل عام وانتم بخير
كان زمان
فى 17 سبتمبر 2021
اكتب تعليقك