ما كان خبراً عادياً انطفاء قنديل حياة العم عبد الرحمن العتيقي، فقد أطفأ معه أضواء مرحلة تتعلّق بجوهر الكويت كرسالة وجوهر الدولة كمؤسّسات.
ما كان خبراً عادياً ولن يكون. أن يحني القدر شخصاً لم تنحنِ قامته. أن تغيب القوة الهادئة التي بنت صروحاً حديديّة بعمل دؤوب وصوت خفيض وعقل مستنير ورؤية مستقبليّة. أن يرحل من كانت، وما زالت، الكويت تتباهى بتجربتها العريقة في بناء أرضيّة آمنة من التأمينات الاجتماعية والمالية والاقتصاديّة والإنسانيّة… هذه التجربة العريقة لا نبالغ إن قلنا إنها جزء من عراقته وريادته ونضاله الحقيقي لبناء مؤسسات صانت الدولة وكانت من أسباب صمودها.
عندما كنت ألتقيه، يتملّكني شعور غريب بأنني لست أمام معلّم فحسب بل أمام قدوة وملهم. مدرسة في التواضع لكنها من أغنى ما عرفته التجارب في القدرة والإرادة والنجاح. كان يبهرني بمعادلة البحث عن «يوم آخر أفضل» في كل سنين عمره، وحتى في نعومة أظفاره يوم دخل المدرسة المباركية وانكفأ عنها لأسباب صحية تتعلق بتعب في عينيه، بدأ السباق في المنزل وحيداً مع نفسه لاستيعاب المناهج والاستزادة منها عبر مُعلّمين كبار، ثم اكتشف أنه تخطّى في سنة واحدة 3 سنوات دراسة إلى الأمام بما في ذلك اللغة الأجنبية وأداة التطور في ذلك العصر «الآلة الطابعة»، مع تمكّن من ركنين آخرين: العلوم والأدب.
قال لي عن تلك المرحلة: «تعبت عيناي لكنني أردت أن أرى من خلالهما أكثر وألّا أسمح لهذا التعب بأن يحجب عني ماذا يجب أن أفعل غداً»… لكنك يا حضرة العم فعلت ما هو أكثر من الكثير، ومن يتابع مسيرتك بدقّة فسيلمس أن البحث عن «يوم آخر أفضل» كان دستورك انطلاقاً من الخاص، أي تطوير القدرات العلمية والفكرية، إلى العام عندما انخرطت في نداء الواجب الوطني عبر بناء المؤسسات راسماً سيرة لم يشهد التاريخ أنصع من بياضها. كانت مداخيل الدولة قليلة جداً ومع ذلك لم تضع يوماً خطة واحدة على قياسها. فالباحث عن «يوم آخر أفضل» كان لا بدّ أن يخطّط على مدى عقود وليس سنوات أو أشهر، وهذا ما حصل… قرأ اتجاهات الريح النفطيّة ورسم خريطة طريقه عبر اتفاقات مع الدول الكبرى ودول الجوار، وقرأ قصة الأمان بالتأمينات ووضع الأفكار الأولى لتأطيرها في مؤسّسة، وقرأ حاجة الكويت إلى حصانة مالية تحفظ الأجيال وبنى جزءاً تلو الآخر من الصندوق السيادي… وهكذا في كل عمل تولاه وفي أيّ قطاع من «النفط» و«المالية» و«الصحة» و«الخارجية» وغيرها.
ولأنه مختلف ومعلّم وملهم، لم ينسب يوماً أي عمل قام به لنفسه فقط، ويقول إنه صادق في نسب الإنجازات إلى أمراء راحلين مثل الشيوخ عبدالله السالم وصباح السالم وجابر الأحمد، سهّلوا له طريق التخطيط والتنفيذ وكانوا أصحاب قرار حازم خصوصاً إذا تعلّق الأمر بحاضر الكويت ومستقبلها، ويفتخر بأنه كان دائماً صاحب رأي وفكرة ومشروع مرتبطة فقط بمواكبة الحداثة مع تطوّر شكل الدولة من جهة، وبتأسيس مظلّة أمان مستقبليّة عبر ترسيخ مؤسسات ناجحة وقويّة من جهة أخرى.
يحكي العم الرّاحل كيف كان عرّاب تأسيس بيت التمويل وطريقة توزيع الحصص فيه، وكيف أسّس «صندوق الكويت للتنمية الاقتصادية» الذي كان اليد البيضاء للكثيرين، وكيف بلور مع آخرين فكرة «أوابك»، لكنه عندما يصل إلى «الجمعية الكويتيّة لرعاية المعاقين» كمُؤسّس ورئيس مجلس إدارة، تدرك كم أن «التجارة مع الله» هي الهدف الذي شكّل عشقه الأول والأخير. طريقة كلامه عن مساعدة أصحاب الاحتياجات الخاصة أو المرضى أو المحتاجين أو الفقراء تشعرك وكأنه ختم الرضاء وأشبع الراحة النفسية… وما يُعرف عن العم «بو أنور» في مجال العمل الإنساني هو رأس جبل الجليد وغيض من فيض تمنّى دائماً أن يطوى مع كفنه.
من المال والاقتصاد إلى الأدب والثقافة، رجل بحجم جامعة حقيقيّة، موسوعة تاريخيّة زاخرة بألف كتاب وكتاب، وألف معلومة ومعلومة، وألف قصيدة وقصيدة. لكنه كان دائماً يختار من الأدب ما يخدم فكرة العبور المؤثّر في الدّنيا لا العبور العابر. ويستشهد بتجارب مفكّرين وشعراء منتقياً ما يحضّ على الإرادة والقوّة والغد الأفضل. وكان عندما أتمنى عليه عدم إرهاق نفسه يردّد دائماً جملة للأديب مصطفى صادق الرافعي: «إذا لم تزد شيئاً على الحياة كنت زائداً عليها».
رحمك الله يا عمي عبد الرحمن، يا معلمي وقدوتي ومصدر فخري وفخر الكويتيّين جميعاً. لم تبخل عليّ يوماً بنصح وإرشاد، ولم تقطع حبل المودة مع أحد وكنت تلتمس الأعذار دائماً للآخرين انسجاماً مع شيم الكبار. رحلت بثوب أبيض كما مسيرتك، رحلت عاشقاً للكويت، لترابها وناسها وأرضها، رحلت معبّداً جسراً كبيراً لمستقبلها، ونتمنى أن تُدرّس سيرتك في المناهج ليتعلّم أبناء الجيل الحالي كيف يفكّرون أيضاً لغدٍ أفضل ولا يقصرون جهدهم على الحاضر.
يقول الرسول الكريم (ص) إن الراحل يتبعه ثلاثة «فيرجع اثنان ويَبقى معه واحد: يتْبعُه أهله وماله وعمله، فيرجع أهله وماله، ويَبقى عمله»… وعملك يا أبا أنور كتب تاريخاً بأحرف من نور، فما انطفأ قنديل حياة كحياتك إلّا وأضاء الأمل في عقول وقلوب أجيال بأسرها.
كان زمان
فى 17 سبتمبر 2021
اكتب تعليقك